على قمة جبل شـــالي


 د/ صهــــــباء بندق 


هناك شىء يجمع عليه كل من زار سيوة ؛ أنه لابد من تجربة الصعود إلى قمة جبل شالي ؛ أعلى قمة في واحة سيوة . هناك يتناوب زوار القلعة الصعود الحذر إلى القمة ويطلبون من رفاقهم التقاط صور تذكارية لهم وهم في وضعية فرد الذراعين للطيران والتحليق في السماء . يتجمع عند القمة أيضاً هواه التصوير والطبيعة الذين يبحثون عن لقطة مثالية للواحة ؛ فهم على موقع يسمح برؤية واحد من أروع المناظر الطبيعية في العالم . فبعد أن تنتهي رحلة الصعود عبر الممرات والدهاليز الضيقة ؛ وعند وصولك الى أعلى القلعة سيدهمك فجأةً مشهداً بانورامياً يكشف واحة سيوة كلها من أعلى .  من بعيد ؛ يظهر اللون الأصفر الذهبي للصحراء ، وهو يحتضن آلاف بل الملايين من رؤس النخيل الباسقة ... بحر من النخيل الأخضر وسط بحر من الرِّمال  ؛ بحر الرمال الأعظم (صحراء مصر الغربية ) يحتضن واحة من النخيل الأخضر ؛ فيما السماء الزرقاء تكلل ذلك المشهد الترابي المترامي على مد البصر! إلى قمة قلعة شالي كانت وجهتي وإليها وصلت بعد نصف ساعة سيراً على اﻷقدام.


عندما تصل إلى النقطة التي تمثل قمة القلعة ؛ سيدهشك أنك قد ارتفعت كثيرا عن مستوى الأرض ؛ وأنك أصبحت فجأة في نقطة مكتظة بالسواح وزوار القلعة . نحو70% من زوار سيوة هم مصريون، في حين يمثل عدد السواح الأجانب الــ 30% المتبقية ، وهي النسبة التي تبدلت عقب ثورة 25 يناير . حيث شهدتواحة سيوة انخفاضا واضحا في أعداد الزائرين منذ انلاع الثورة في 2011، وما تبعها من اضطرابات في البلاد ؛ بعد ذلك بدأت السياحة الداخلية تنشط تدريجياً ؛ لتقلب نسبة الزوار الأجانب إلى المصريين .

مثل طائر أخضر وديع ترقدُ بقعة داكنة الخضرة بسلام فوق عش ذهبي من الرمال الصفراء. وإذا حولت بصرك إلى الزاوية الأخرى ؛ يمكنك أن ترى شعاع الشمس المنعكس على البحيرة العظيمة وقد مدت اطرافها على الرمال الذهبية ؛ كما تفرش عروس جميلة ثوبها من الدانتيل الأبيض . كل ذلك فضلا عن الجبال الصخرية التي تميز ذلك المشهد من الواحة ؛ جبلان مخضبان باللون الأحمر والبني المحروق ككفي عروس . مجمل تلك المشاهد من قمة القلعة جعلني أشعر بنشوة روحية بالغة وكأنني في عُرس من أعراس الطبيعة ؛ إنه مكان فريد في طاقته الروحية ؛ مكان تشعر فيه بالحيوية وبالرغبة في الاستكشاف .. في الانطلاق والطيران.


هنا عند هذه النقطة على قمة " قلعة شالي " تركتُ التصوير. نحَّيْتُ الكاميرا داخل حقيبة الظهر ، فتحت ذراعيّ وأخذتُ استنشق الهواء الجاف النقي المُعطّر بعبق الطبيعة والتاريخ.


جمال فوق السحاب ..تاريخ تحت الركام


لابد أن الدهشة كانت ترتسم على ملامحي فيما يتساءل عقلي عن عدد الحضارات التي مرت من هنا ؟ كيف استقامت هذه الحياة الفريدة في هذا المكان البعيد على مرِّ آلاف السنين؟ كيف وصل الإنسان إلى تلك البقعة وسط الصحراء وأقام فيها هذا المعمار الصحراوي العجيب ؟

حتى إن لم تحصل على إجابات عن كل تساؤلاتك ؛ فإن مجرد وجودك فوق تلك القمة الاستثنائية ؛ سيجعلك تشعر وتفهم لماذا هذا المكان مختلف وفريد ؟!. إنها أحد أهم المزارات السياحية المؤثرة التي شاهدتها والتي ستظل تذكرني دائما بحضارة كانت ومازالت آثارها باقية . موقع يمنح زائره إطلالة بانورامية على متحف مفتوح يعرض قطع أثرية تضم العصور التاريخية المختلفة التى مرت بها سيوة من العصر الفرعوني إلى الروماني ثم اليوناني وأخيراً العصرالإسلامي. متحف طبيعي يُبرز تاريخ الممالك المتعددة التي توالت بصحراء مصر الغربية .


على قمة شالي ؛ ستجد نفسك أمام منظر ليس له مثيل؛ ستتمكن من رؤية واحة سيوة من مشهد علوي رائع بشكل جمالي يثير الرهبة و الجمال.



على قمة شالي


صدمة بصرية حضارية

 

من قمة شالي الفريدة ؛  يمكنك أيضاً أن تبصر الشوارع المنشأة حديثاً والمنازل الجديدة المحيطة  بالقلعة . عندما أدرتُ رأسي باتجاه المباني الحديثة في الأسفل ؛ كان الأسمنت والحديد قد حلّ فجأة محل أحجار الكرشيف وأسقف النخيل والشبابيك المصنوعة من شجر الزيتون . بشكل مؤذٍ ؛ جرح عينيي مشهد البيوت المشيدة بالحديد والخرسانة . كان النظر إلى البيوت الاسمنتية من وسط المنازل الكرشيفية بمثابة ضوضاء بصرية . أخذتُ أتأمل تقسيمات البيوت الاسمنتية واصطفافها العشوائي، بعضها له حظائر للعنزات والدجاج تصطف في مقابل البيوت أو متاخمة لها. تشوه شاذ وحاد وسط تابلوه المنظر الطبيعي الآسر من أعلى القلعة  !



من أعلي قمة في جبل شالي ؛ تحيط البيوت الخرسانية الحديثة  بالقلعة الأثرية والبحيرات وأشجار النخيل 

أفادني المُرشد ابن الواحة أن هذه البيوت الجديدة تزحف ببطء منذ العام 1985، لتلتهم بشراسة العمارة السيوية التقليدية . أجبته : بالطبع ؛ التطوير والتنمية شئ  جميل ومطلوب لتيسير حياة الناس ؛  لكن ليس عندما يكون في غير موضعه . ألم يكن من الأجدى حظر البناء الحديث حول القلعة وفي مجال الإبصار من أعلاها ؟. وإذا تعذر إيقاف زحف المباني الجديدة ؛ على الأقل منع بناء بيوت جديدة ؛ والسماح فقط بتجديد البيوت القديمةوالسماح للأهالي باستخدامها بعد تكييفها بشكل حديث  ؛ مع الاحتفاظ باللمسات التي تتلاءم وطبيعة سيوة المعمارية .تساءلت : كيفيمكن خدمة المجتمع السيوى ورفع المستوى المعيشي لديه، مع الحفاظ على ما بقي من بيوت المدينة القديمة والمحافظة على مواقعها اﻷثرية ؟ اخشى ألا تطالها يد الترميم فينهار!!. تابع المرشد  :  أو أن تطالها يد الترميم فتشوهها !! .

ولكن كما بقيت سيوة محافظة على النمط الاجتماعي القديم السائد فيها . وكما استمرت سيوة في الحفاظ على هويتها الثقافية و قيمها الاجتماعية المتميزة؛ لاتزال قلعة " شالي" تسيطر على جغرافية وتاريخ سيوة وتفرض شخصيتها على المكان كله قديمه وحديثه ؛ وليس فقط  على سكانها ؛ بل وعلى زوار الواحة من السواح الأجانب والضيوف المحليين أيضاً ؛ رغم أنف التغييرات الحديثة التي طرأت على البيوت السيوية في اﻵونة اﻷخيرة. إذ لا يزال بوسع الناظر من قمة " شالي " أن يستمتع بالنظر إلى مُجمل الواحة الخضراء بالأسفل؛ فيما يستمعإلى القلعة الملحية العتيقة وهي تعزف سيمفونيتها الفريدة عبر التاريخ والجغرافيا .فــ " شالي" هيآخر محطة للقطار الأمازيغي المنطلق من المغرب العربي باتجاه الشرق ؛  قطار يعزف عزفٌ فريد يتحدث باسم أمازيغ مصر ؛ وباسم جميع المدن التاريخية المنسية في العالم التي دفعت كثيرا بسبب اﻹهمال .


اهتمـــام جديد 

" شالي" لا تقل أهمية عن المدن اﻹيطالية الشهيرة اﻷكثر زيارة على مستوى العالم ؛ فهي مثل: روما وميلانو وفلورنسا وفينيسيا وفيرونا وماتيرا ؛ مدينة تجمع بين الفن والحضارة والغرابة . بل وتتفوق على جميعها باعتبارها مثال فريد على هندسة العمارة الصحراوية . إن النموذج المعماري لبلدة شالي هو الأندر بين العمارة الطينية، مثلما يبرز نموذج الزيتونة مثالا للعمارة الملحية . لذا ؛ فهي جديرة ليس بالاهتمام الحكومي فحسب ؛ بل والاهتمام الثقافي والانساني العالمي . " قلعة شالي " بأكملها تستحق التطوير ؛ منازلها ومساجدها والسور الذى يحيط بها جديرة بالترميم والتطوير من أجل إظهار إمكانياتها الأثرية وقيمتها المعمارية وثقلها في ميزان التراث الإنساني العالمي .

من جهةٍ أخرى ؛ ثمثل " قلعة شالي"  جزءً هاماً للغاية من التراث الاجتماعي المصري  ومثالاً متميزاً على التنوع الثقافي والحضاري للمصريين ؛ فهي شاهد على الهوية الأمازيغية القديمة لجزء من مصر ؛ ووجه مميز من تاريخها وثقافتها .

ومن خلال مشروع التطوير الجديد الذي اعتمدته وزارة الآثار المصرية لترميم قلعة شالى الأثرية ؛ بوصفها أحد المواقع الأثرية الخاضعة لقانون حماية الآثار ؛ يمكن إضافة معلم معماري جديد ومميز  على الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية الموجودة في مصر . كما يمكن التعرف على حياة المصريين الأمازيغ في تلك المنطقة والمشكلات التي واجهوها في فترة عزلتهم الفريدة ؛ قبل تمكن حكومة محمد علي في الوصول إليها في أوائل القرن التاسع عشر.. ومن خلال هذا المشروعالذي بدأت عجلته تدور في المدينة ؛ يمكن أن تصبح شالي وجهة سياحية جذابة في وسط الصحراء الغربية . ونقطة اتصال حضارية وثقافية بين الامازيغية وكل الثقافات واللغات  المحيطة بها ؛  نقطة اتصال مثالية ونادرة تضع سيوة فى مكانتها السياحية العالمية.

يتألف مشروع الترميم من عدة مراحل تهدف إلى إعادة تأهيل الشوارع الداخلية والجدار الرئيسي حول القلعة، و استعادة ثلاثة منازل مختلفة. والمشروع عبارة عن خطة بتمويل من الاتحاد الأوروبي من أجل الحفاظ على ما تبقى من البلدة القديمة ، واستعادة بعض مبانيها، شركة (EQI)العالمية، هي الشركة المشرفة على تنفيذ الخطة، ويناقش المشرفون على المشروع الكثير من الأمور مع شيوخ وقادة سيوة، ممن يتوافر لديهم معلومات حول المباني السيويية. وتقوم وزارة الآثار المصرية بالإشراف عليه لمدة تتراوح من ثلاث الى خمس سنوات، حيث من المقرر الانتهاء منه بحلول 2022م .




 

 

في مركز سيوة رُسمت لوحة جدارية بارزة ؛ تُظهر أسوار القلعة كما كانت قبل أن تتداعى . يأمل سكان سيوة أن يروا هذه القلعة كما تظهر بالرسم الجداري عندما تنتهي أعمال الترميم والتجديد في 2022م

 


مستقبل سياحي واعــد 

إن دخول البلدة القديمة  "شالي"الواقعة في قلب واحة سيوة بالصحراءالغربية في مصر ضمن خطة تطوير تتبناها الحكومة المصرية متمثلة في وزارة الآثار، سيسهم في الترويج للسياحة المصرية المحلية خارج القاهرة ؛ ويعمل على تأهيل سيوة كوجهة سياحيةعالمية جاذبة لعشاق الطبيعة الفريدة والحياة البدائية الطبيعية . ومع مزيد من الدعم والاهتمام والاستثمار يمكن أن تتحول سيوة بأكملها إلى نقطة جذب سياحية ليس فقط لمحبي التاريخ وفنون العمارة والطبيعة الفريدة ؛ بل أيضاً  للباحثين عن السياحة العلاجية مثل : الدفن بالرمال وحمامات العيون الكبريتية . وكذلك لعشاق الحرف التقليدية التي اندثرت في مناطق أخرى من مصر مثل: منتجات الخوص و سعف النخيل والفخار، ومصنوعات ليف النخل، واحجار الملح  والمشغولات اليدوية ؛ والكثير من أوجه النشاط السياحي فالثراء الطبيعي والتاريخي لسيوة لايمكن تخيله، ناهيك عن ثروات سيوة البيئية الهائلة التي تتطلب وعيا كبيرا في التعامل معها . وعيٌ تأخر كثيراً ؛ لكن جاء مشروع ترميم قلعة شالي كخطوة أولي في الاتجاه الصحيح. ومن الجيد أن وزارة البيئة تعمل جنبا إلى جنب مع وزاراتي السياحة والاثار في مشروع ترميم  قلعة شالي ، فالتحدي الرئيس لهما هو الحفاظ على الطرق التقليدية للبناء، التي تميزت بها المباني السيوية، في ظل تراجع بيوت الكرشيف أمام البناء الحديث في سيوة وهو ما يهدد طبيعة البلدة البدائية.






تم عمل هذا الموقع بواسطة