سلفادور دالي... نرجسية الذات وجنون اللـــوحة


كان طفلاً  عبقرياً متعدد المواهب ، ولكن عبقريته المبكرة المُنذرة بالسوء كانت تشوبها لمسة من الكآبة العميقة التي يتميز بها كل من يتمتع بالعبقرية .  يقول عن طفولته في مذكراته : "  كنت دائم الانفعال سريع الغضب والاشتعال؛ أكسر كل ما يقع عليه نظري وأتمسك بقوة وأنانية مطلقة، بكل ما أريد أن أعمله، وبكل ما يجلب إلى قلبي المتعة". ولعل هذه السمات النفسية هي التي شكّلت الشرارة النفسية الأولى للمذهب الفني الذي اختاره للوحاته. فعندما كان عمره ثلاث سنوات، أراد أن يصبح طاهياً، وعندما بلغ سن السادسة أراد أن يصبح نابليون بونابرت، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف طموحه عن الازدياد والنمو.  ولم يتوقف عن الجنون أيضاَ !!


البدايات الفنية

رسم أولى لوحاته وهو لا يزال فتىً في السابعة من عمره ؛ وفي عامه الثالث عشر حاز على جائزة عن رسمه , وشعر والده بالفخر لذلك وأقام احتفالاً وأسس له استوديو خاص قبل أن يُلحقه بأكاديمية الفنون الجميلة في سان فيرناندو في في العاصمة الاسبانية مدريد. وأقام له معرض في منزل الأسرة تضمنت لوحالته  صورة شخصية لأبيه الذي كان دائماً يظهر مُرتدياً بدلة أنيقة كاملة وساعة ذهبية ثقيلة تتدلى من سلسلة .

استاء دالي من الأسلوب الذي يتبعه المعلمون في التدريس بأكاديمية سان فرناندو للفنون الجميلة ؛ وشعر بأنها لن تستطيع تعليمه شيئاً. كان يفضل أن يتجول داخل متحف مدريد الضخم " البرادو" كل يوم الأحد، و يمضي الساعات الطويلة مُتسمراً أمام لوحات الفنانين الإسبان العظام مثل "دييجو فيلاسكيز"(1599-1660) و"فرانشسكو دى جويا " (1746-1828).وعندما كان يعود إلى الأكاديمية كان يقوم برسم رسوماً تكعيبية للمواضيع التي شاهدها في هذه اللوحات. وفي العام التالي أقام أول معرض علني له في مسرح بلدية فيغوريس Figueres وليس في منزل الأسرة هذه المرة.


التلميذ الغريب ذو الشارب

لم يكن دالي طالباً جاداً، كان شخصاً غريب الأطوار يعيش أحلام اليقظة، وسرعان ما نقلته نزعته الفنية إلى مظهر جديد، فبدأ يرتدي الملابس الغريبة و ازداد طول شعره والسوالف وأصبح  يُعرف في الأكاديمية بالــ " غريب " وكان مظهره يبرز شخصيته النرجسية. 

كان قد اهتم خلال فترة دراسته بمطالعة مؤلفات فلسفية مثل كتابات فولتير، كانت، وسبينوزا. ووجّه اهتمامه الكامل إلى أعمال الفيلسوف ديكارت الذي استند إلى أفكاره في الرسم فيما بعد . وبعد انتهائه من قراءة كتاب " هكذا تحدث زرادشت"  عمِد دالي إلى إطالة شاربه ليكون مثل شارب نيتشه. ولبقيّة حياته ؛ ظل دالي محتفظاً بشاربه الطويل الحاد و عصا يده الصغيرة ؛ حتى انه نشر كتابا عام 1954 عن شاربة!

عقبات دراسية 

في عام 1923، تم تعليق دراسته في الأكاديمية بسبب انتقاده لمعلميه . وفي عام 1926 ؛ طُرد منها نهائيًا ؛ بعد أن رفض جزءاً من اختبارته النهائية لأنه يرى  أنه لا يوجد عضو في الكلية مختص بما فيه الكفاية لكي يمتحنه - ربما كان محقاً - ففي ذلك الوقت ؛ كان قد ذاع صيته وجذبت اعماله انتباه بيكاسو و الفنان الكاتلاني ابن بلدته  "خوان ميرو" (1893- 1983) . 

بعد فصله من الأكاديميه ؛ بدأ دالي بتقلد العديد من الانماط الفنية المختلفة لتتنمية موهبته الفنية . في تلك الفترة ؛  رسم لوحات من الحياة الواقعية والطبيعية الصامته مثل الفاكهة و الخبز و السكاكين والزجاجات ومناظر لمراكب الصيد على الشاطئ و المنازل البيضاء و بساتين الزيتون . وكان يردد :  "اولئك الذين لا يريدون تقليد أي شئ ؛ لن ينتجوا شيئاً " .

الأخت الموديل

عندما كان يقضي عطلة الصيف مع أسرته على البحر في كاداكس Cadaques ؛ كانت معظم لوحاته تصور أخته ”آنا ماريا“ التي استخدمها كموديل لرسوماته ؛ وكانت موضوعًا للعديد من البورتريهات التي رسمها في عام 1925 .  أشهر تلك اللوحات ؛ لوحة ” فتاة عند النافذة “ , اللوحة التى تقف فيها أخته من الخلف فيما أخفي وجهها، وهو تصرف غريب أعطي في حينه الكثير من التفسيرات والتخريجات السيكولوجية، فإخفاء العنصر الإنساني يخلق تباينًا واضحًا مع جو العطلة الذي يوحي به منظر النهر وصفاء المشهد نفسه  . وقد عرضت هذه اللوحة في أول معرض فني منفرد للوحات دالي في برشلونة من ذلك العام، ونال هذا العمل بالذات إعجاب “,”بابلو بيكاسو“,” الذي كان حاضرًا.


إلهام من الأحلام

في أواخر العشرينيات من القرن العشرين ، اكتشف دالي العالم النمساوى والمفكر الشهير سيجموند فرويد (1859-1939) من خلال قراءة كتابه (تفسير الأحلام) فتأثر كثيراً به، وأصبح قارئاً متعطشا لنظريات فرويد للتحليل النفسي التي كان لها تأثير كبير على الحركة السريالية . لكن دالي ذهب بعيداً في ملاحقة إيحاءات العقل الباطن، فقد دفعه تأثره بأفكار فرويد إلى وضع نظريّة (الأسلوب الهذياني) داعياً من خلالها إلى تبني شكل آخر لتفسير أعمال الفنانين السرياليين . استخدم دالي طريقته لخلق واقع خاص لأحلامه وأفكاره في اللاوعي، وبالتالي تغيير الواقع عقلياً إلى ما أراد أن يكون وليس بالضرورة إلى ما كان عليه وهذا ما أصبح أسلوباً للحياة بالنسبة لدالي.  وهكذا قامت "سريالية دالي" على ما دعاه (النقد المبني على الهلوسة) أو الذي يُسقط الوهم والخيال على الواقع والحوادث الخارجيّة. وربما هذا هو ما دعى الشاعر والطبيب النفسي (أندريه بريتون) لوصف فن دالي قائلاً : "فن دالي هو أكثر هلوسة عرفتها " !


الانطلاق نحو السريالية

 زاد شغف دالي بالسيريالية ؛ و شجعه صديقه الرسام والنحات الكاتالانى (خوان ميرو) على الذهاب الى باريس ؛ وكتب إليه يخبره بأن النجاح سيحالفه هناك. وفي عام 1928 ؛ انتقل إلى باريس وأصبح عضوا نشطاً فى الحركة السيريالية ؛  و بحلول عام 1930 م؛  أصبح الشخصية الأشهر بها ؛ حتى انه اختير ليصمم الشكل الافتتاحى للمانيفيستو السيريالى الثانى في العام ذاته  .



جـــــالا 

بعد سنوات قليلة من لقائهما الأول ؛ رسم دالي بورتريه شخصي لحبيبته الروسية الأصل”جالا ايلوار" التي عرفت لاحقًا باسم (جالا دالي) . ظهرت فيه كما لو كانت تنظر إلى مرآه ؛ ولكن لم يكن هناك مرآه ؛ كما كانت هناك بعض الاختلافات بين جالا في الحالتين ؛ فهي في واحدة تجلس على صندوق ؛ وفي الأخرى تجلس على عربة يد . وفي الخلفية ؛ تظهر لوحة معلقة على الحائط ؛ لإثنين من المزارعين يجلسان في حقل معتم . وقد اعتمد دالي في لوحته هذه على لوحة شهيرة ترجع إلى القرن التاسع عشر ؛ للفنان الفرنسي ( جان فرانسوا ميليت) (1814- 1875) . وهي صورة طبق الأصل ؛ من تلك اللوحة التي كانت معلقة على الحائط ؛ في أول مدرسة التحق بها ؛ وظلت مؤثرة فيه على امتداد حياته . 

وفي عام 1943 تزوج دالي من جالا التي أشتهر بحبه لها ؛ وبدأت تزيح أخته  ”آنا ماريا“ وتجلس مكانها كموديل.وعقب زواجهما بفترة قليلة أقام دالي أول معرض سيريالي له فى لندن ونجح في جذب المزيد من اهتمام الصحافة وخاصة بعد أن ألقى محاضرة فى مكان العرض وهو مرتد بدلة غطس !.



مُبدع نرجسي ولوحة ساحرة 

كانت لأفكار (فرويد ) تأثير قوي على أعمال دالي والسرياليين بوجه عام . وصف فرويد حالة يصبح فيها الشخص مهووساً بنفسه بحيث لا يستطيع محبة أي أحد آخر ؛ وأطلق فرويد على هذه الحالة اسم " النرجسية " . واستخدم شخصيات من الأساطير القديمة لوصف أنماط نفسية  خاصة . أُعجب دالي كثيراً بأسطورة " نرسيسوس" التي استخدمها فرويد لوصف النرجسية .  وكتب قصيدة طويلة عنها في الواقت ذاته الذي كان ينفذ فيه لوحته بعنوان :  "احياء النرجسية" . 

في عام 1938م ؛  سافر لزيارة فرويد  فى لندن ؛ ورسم له عدداً من الصور و عرض عليه لوحته "احياء النرجسية" . في ذلك اللقاء ؛ زوده فرويد بملاحظتين : الأولى دعاه فيها للبحث في اللوحات الكلاسيكية عن العقل الباطن ؛ وفي الثانية طلب منه البحث عن الوعي لدى الفنانين السرياليين .

السريالية هي أنا

لجأ دالي إلى أساليب ملتوية لتحقيق الشهرة العالمية كتأييده لحكم الزعيم الفاشي فرانشيسكو فرانكو في إسبانيا ؛ وانبهاره بكارزمية الديكتاتور الالمانى هتلر  ؛ فاتهمه الفنانون السيرياليون بأنه مؤيد لليمينيين المتعصبين ومناصر هتلر . واتهمه (بريتون) أيضاً  بالجشع و سخر منه باعتباره مجنونا بالمال باع روحه بالدولارات ؛  وأطلق عليه اسم ( أفيدا دولار) وهو اسم نصف أسباني ونصف أمريكي معناه " الشرِّه إلى الدولار ". ولم تمر فترة طويلة قبل أن يتخذ الفنانون السرياليون قراراً جماعياً  بفصل دالي من الحركة السريالية. غير أن قرار بريتون زعيم السرياليّة والناطق باسمها وفيلسوفها بــ فصل  دالي من الحركة السريالية لم يحبط من عزيمته ولم يزعزع من ثقته بنفسه ؛ بل إنه لم يتأخر في الرد كــ نرجسي نصبه الجنون ملكاً على عرشه : " ليس بإمكانك طردي، فالسريالية هي أنا .. إن الفارق الوحيد بيني وبين السريالين ؛ هو أنني سريالي " !!. 


الحياة في الحلم الأمريكي

قضى دالي مع جالا أسعد أوقاته على ميناء لليجات ؛ ثم سافرا معاً إلى نيويورك في بداية الأربعينيات ولقي اهتماماً إعلاميا وحقق نجاحا كبيراً. وأصبح دالي وجالا زوجين شهيرين بالقدر الكافي ويتمتعان بدائرة واسعه من صداقات المجتمع الراقي والأغنياء والأرستقراطيين.و ذاعت شهرته وكثر المعجبون بفنه من  الأميركيين ؛ و حصل على العديد من عروض العمل . وكسب الاموال الطائلة من خلال رسم لوحات شخصية للمشاهير و تصميم الأفلام السينمائية والاعلانات. يقول دالي عن تلك الفترة : "لقد كانت الشيكات تنهمر علّي كالإسهال!". 


تحولاته الأخيرة

بالرغم من تقدم سنه ؛ اهتم دالي بالهندسة والرياضيات وعلم التشريح والمنظور قدر اهتمامه القديم بالإيحاء من اللاوعي. كان معجبا بتطورات الفيزياء وعلم الوراثة و قد عبر عن تلك الاعتمامات فى انتاجه الفنى وبدا الرسم مستخدما آلة لتضخيم الصورة تسمى " استريوسكوب" ؛ تُمكن العين البشرية من رؤية الصورة ثلاثية الابعاد وليست ثنائية ؛ كى يعطى المتفرج احساسا بالرؤية داخل فراغ حقيقى و ليس فقط داخل سطح مستو .. لذا كانت لوحاته الأخيرة معقدة جداً . 



عاد دالي إلى كتالونيا عام 1949 ، وعلى مدى السنوات ال 15 المقبلة، قام برسم سلسلة من 19 لوحة كبيرة تضمنت مواضيع علمية أو تاريخية أو دينية.  و خصص الكثير من وقته بين عامي 1960 و1974 لإنشاء متحف دالي الذي أقيم على أنقاض المسرح البلدي في مسقط رأسه فيغوريس . يضم المتحف كذلك مجموعة من الأعمال واللوحات الفنية لفنانين آخرين قام دالي بجمعها .



في عام 1982 توفيت جالا . وبدأ دالي يمرض وأمضى حياته من بعدها في عزلة حقيقية داخل قصره في (بوبول). وفي مايو من العام 1983 رسم آخر لوحاته التي حملت عنوان (ذيل السنونو). وفي العام 1986 أصيب بحروق بالغة في جسمه إثر حريق شب في غرفة نومه، انتقل بعدها إلى بناية المتحف الذي يحمل اسمه في مسقط رأسه (فيغراس) ليعيش مريضاً تحت عناية الممرضات في برج هذه البناية إلى أن توفي عام 1989 ؛ عن عمر 84 عامًا.ودفن في سرداب الطابق السفلي للمتحف . 



كتبت د/ صهبــــــــاء بندق

ماجستير الميكروبيولوجيا الطبية والمناعة ، طبيبة روماتيزم  أعمل في عيادتي الخاصة متخصصة في علاج الروماتيزم وأمراض المفاصل ومهتمة بالطب البديل والعلاج بالابر الصينية و بالحجامة و الضغط على النقاط الفعالة. أهوى الكتابة والتصوير ، تهمني صحة البشر الجسدية والنفسية  ويعنيني الهدوء والاطمئنان، وأرجو أن تكون لكلماتي نصيبًا منهما. 

تم عمل هذا الموقع بواسطة