مسجد في أحضان معبد وعلى أطلال كنيسة

د. صهباء بندق 

(ثمّ سافرتُ إلى مدينة الأقصر، وهي صغيرة حَسنة، بها قبر

 الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري وعليه زاوية)"

هكذا ذكره ابن بطوطة ذكراً مختصراً في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" . إنه مسجد أبي الحجاج الأقصري أو جامع أبو الحجاج كما يسميه العامة ؛ فمن هو أبو الحجاج الأقصري ؟ وما قصة مسجده ؟ و كيف كان المعبد إلى كنيسة ؟! وما حقيقة أنه مسجد مشيد في أحضان معبد فرعوني وعلى أطلال كنيسة رومانية قديمة ؟؟!!! ولماذا يُعدُّ أيقونة للتراكم الحضاري على أرض مصر ؛ وشاهداً على التقاء ثلاث ديانات وامتزاج ثلاث حضارات على أرضها ؟ 

على يسار المار من مدخل الصرح الأول لمعبد الأقصر ؛ يستوقف زائر المعبد وجود مسجد بطرازه الإسلامي ضمن هذا الموقع وكأنه أثر فرعوني (مآذن المسجد تصطف إلى جوار أعمدة المعبد الفرعوني .

 وتظهر المسلة الفرعونية خلف المسجد وبينهما سور معبد الأقصر /


المسجد المُعلّق

  يرجع اسم المسجد إلى العارف بالله يوسف بن عبد الرحيم بن يوسف بن عيسى الزاهد،. كان يُكنى بأبي الحجاج وأضيفت له " الأُقصري " نسبة إلى مقره الأخير في الأُقصر .بعد وفاته ‏؛ قام ابنه الشيخ احمد نجم بتشييد مسجد في موضع الزاوية التي كان والده قد اتخذها مكاناً للخلوة والعبادة وإلقاء دروس الوعظ والتعليم . آنذاك لم يدرك الابن البار أنه يُشيّد مسجداً على أعمدة معبدٍِ فرعوني تأسس قبل 1400 من الميلاد ؛ لعبادة آمون رع وزوجته موت وابنهما خونسو. كانت أطلال المعبد مردومة بالكامل تحت أطنان من الرمل والطين قبل اكتشاف ذلك الجزء من المعبد . ولهذا يظهر مسجد أبي الحجاج مرتفعاً عن أرضية المعبد أكثر من 10 أمتار . وهذا هو سبب تسميته بالمسجد المُعلّق .

   مسجد أبي الحجاج " المسجد المُعلّق " يقف بموازاة رؤوس أعمدة معبد الأقصر 

أعمدة المعبد تنتصب تحت أرضية المسجد

الطراز المعماري للمسجد 

 رغم كونه مسجداً سُنيّاً أيوبيّاً، شُيِّد خصيصاً لمواجهة الفكر الشيعي في صعيد مصر؛ إلا أنه يشبه في طرازه المعماري المساجد الفاطمية القديمة. فهو عبارة عن مساحة صغيرة مربعة، مغطاة بسقف خشبي، ويعلو المسجد شريطا من الشرفات المبنية بالطوب الأحمر. ويخلو من الزخارف الهندسية والنباتية واللوحات الخطية المعروفة في العمارة الإسلامية. وفي الجهة الشمالية الشرقية تبرز مئذنة الجامع القديمة . وهي مئذنة مبنية بالطوب اللبن يبلغ ارتفاعها 14 مترا و15 سنتيمتراً. وتتكون من ثلاث طوابق : الأول مربع الشكل مقوى ومدعم بأعمدة خشبية (مداميك‏) أما الطابقين الثاني والثالث فلهما شكل أسطواني يليه القمة التي تأخذ شكل نصف كروي وتوجد بها مجموعة من النوافذ والفتحات. وتلك من‏ ‏سمات‏ ‏مآذن‏ ‏صعيد‏ مصر القديمة ‏التي‏ ‏بنيت‏ ‏في‏ ‏العصرين‏ ‏الفاطمي‏ ‏والأيوبي‏, لذا فهي تشبه مآذن مصر القديمة ذات الطراز الفاطمي، مثل مئذنة مسجد قوص، ومئذنة مسجد إسنا، وكذلك مئذنة مسجد الجيوشي بالقاهرة.وهي من أقدم مكونات المسجد الحالية، إذ ترجع إلى عصر أبي الحجاج نفسه، ‏أما‏ بناء ‏المسجد‏ ‏الحالي فهو‏ ‏غير‏ ‏أثري‏ ‏ويرجع‏ ‏لأوائل‏ ‏القرن‏ ‏العشرين‏.‏                

تبدأ‏ المئذنة ‏بقاعدة‏ ‏مربعة‏ ‏ثم‏ ‏بدن‏ ‏أسطواني‏ ‏يليه‏ ‏القمة‏ ‏التي‏ ‏تأخذ‏ ‏الشكل‏ ‏النصف‏ ‏كروي‏

 في فترة لاحقة، أضيف للمسجد مئذنة أخرى ؛ لا يعتبرها الأثريون شاذة عن الشكل الجمالي للمبنى، حيث روعى في تكوينها الطابع المعماري للمكان. وهكذا أصبح للمسجد مئذنتين ؛ القديمة إلى اليمين والجديدة إلى اليسار . أما قُبة المسجد التي تغطي الضريح، فهي مكونة من قاعدة غير منتظمة الأبعاد،تتدرج حتى تصل إلى الشكل الدائري للقبة. وتُعدُ من الآثار الإسلامية الفريدة.


قبة مسجد أبي الحجاج من الآثار الإسلامية الفريدة.

 المئذنة العتيقة تخترق بهو معبد الأقصر

تم‏ ‏تسجيل ‏مسجد‏ ‏أبو‏ ‏الحجاج‏ ‏الأقصري ‏بالكامل ‏كأثر‏ ‏إسلامي‏ ‏مؤخرا‏؛‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏المئذنة‏ 

وحدها‏ ‏تم‏ ‏تسجيلها‏ ‏كأثر‏ ‏منذ‏‏زمن‏ ‏بعيد‏ ‏حيث‏ ‏إنها‏ ‏ترجع‏ ‏في‏ ‏تاريخها‏ ‏إلي‏ ‏أكثر‏ ‏من‏840 ‏عاما‏.



مئذنتا مسجد أبي الحجاج الأقصري: القديمة إلى اليسار، والجديدة إلى اليمين.  

 وفي أقصى اليسار يظهر جزء من مباني معبد الأقصر


مئذنة مسجد أبي الحجاج ب طوابقها الثلاث مباشرةً أمام تمثال الملك رمسيس الثاني !!


مئذنة مسجد أبي الحجاج الجديدة تبزغ خلف الصرح الأول المؤدي لمدخل المعبد 

بين تمثالين ضخمين للملك رمسيس الثاني !!


بيت آمون الذي وسط الفرح 

في أعقاب تعرض المسجد لحريق في يونيو 2007م ؛ بدأت عملية ترميم كشفت عن بوجود أعمدة أثرية من الطراز الفرعوني كانت مطمورة داخل جدران المسجد ؛ فعند إزالة الطبقات الجيرية ظهرت كتابات بخطوط هيروغليفية ترجع إلى عصر رمسيس الثاني . وبرز نقش كبير يتُشير إلى أن معبد الأقصر هو المعبد الذي عُبد فيه الإله آمون. حيث ظهر فيه الملك رمسيس الثاني وهو يقدم القرابين للمعبود آمون رع . وبعد ترجمة الكتابات الهيروغليفية جاءنا معناها الرومانسي عبر ركام السنين مثل أنشودة قديمة سمعناها في طفولتنا ثم نسيناها : " بيت آمون الذي وسط الفرح " !!.   هذه الكتابة المصرية القديمة تُشير بصدق إلى المكان الذي عُبد فيه الإله بثلاث عقائد مختلفة ؛ فكان معبد فرعوني لعبادة الإله آمون ثم دير روماني لعبادة إله المسيح ؛ وتحول اليوم إلى مسجد إسلامي يُعبد فيه الله !            

داخل المسجد عدد من العواميد المزينة بالرسومات الفرعونية



في جميع الفراغات الداخلية لمسجد أبي الحجاج ؛ يمكنك أن ترى ‏أعمدة‏ ‏وأعتاب‏ ‏ونقوش‏ مشابهة تماما لتلك 

الموجودة في معبد الأقصر



الكثير من مظاهر الحضارة الفرعونية من أعمدة ونقوش ورسومات لا تزال حية على جدران المسجد





ضريح راهبة داخل مسجد ! 

 بعد دخول المسيحية الى مصر ؛ سكن الرهبان بعض المعابد الفرعونية القديمة التي كانت قد تحولت إلى خرائب مهجورة في العصر الفرعوني ثم الروماني. وقاموا بتحويلها الى كنائس . حدث ذلك في معبد دندور بالنوبة على الضفة الغربية لنهر النيل، الذي يقع على بعد حوالي 80 كم الى الجنوب من أسوان وأصبح كنيسة مسيحية في القرن السادس الميلادي؛ وكذلك معبد بيت الوالي الذي شيده رعمسيس الكبير واستخدم في العصر المسيحي النوبي ككنيسة . ومعبد حتشبسوت الذي تحول لدار للعبادة المسيحية ، ولا يزال حتى الآن يُطلق عليه اسم "الدير البحري". وهذا يُفسر نقوش الصلبان على حجارة معبد جزيرة فيللة . معبد الأقصر أيضاً نال نصيبه من التغيير ، فقد أُقيم ديرٌ روماني في الفناء الشمالي الشرقي لمعبد الأقصر ؛ وتحولت القاعة الكبيرة فيه إلى كنيسة قبطية ما تزال تُرى في ‏مسجد‏ أبي الحجاج بعض الإشارات الدالة عليها، تعود بقايا الكنيسة إلى القرن الخامس، وتشمل العديد‏ ‏من‏ ‏القطع‏ ‏الأثرية‏ من ‏أحجار‏ ‏الجرانيت‏ ‏والمرمر‏ ؛ ‏وتحتوي على رسومات‏ ‏ونقوش‏ ل‏أيقونات‏ ‏مهملة‏ وتيجان نقشت بالأسلوب الكورنثي، وهو الأسلوب الفني الأشهر فى العصر الروماني. 


داخل المسجد يوجد حجرة صغيرة بداخلها ضريح مزين بالأقمشة الزاهية، إلى جوار بابها لافتة كُتب عليها : "حجرة السيدة تريزة رضى الله عنها"وهي راهبة رومانية ساعدت أبي الحجاج في الإنفاق على طلاّب العلم ورعايتهم والتكفّل بطلباتهم، فأمر الشيخ أن تدفن بجواره بعد وفاتها إكراماً لها و لجهودها. 


بقايا كنيسة تعود إلى القرن الخامس، تقع أسفل مسجد أبي الحجاج من الناحية الغربية


أيقونة التراكم الحضاري على أرض مصر

   في فناء معبد الأقصر يبرز مسجد أبي الحجاج بمآذنه وزخارفه ورسومه الإسلامية ؛ يقف شاهداً على التقاء وامتزاج ثلاث حضارات إنسانية كبرى على أرض مصر . هنا تمت عبادة الإله بمختلف العقائد .؛ في تناغم وتمازج زماني ومكاني عجيب يربط هذا المسجد بين مصر الفرعونية والقبطية والإسلامية . هنا تتماهى مصر الفرعونية والمسيحية والإسلامية.. ويلتقي الهلال و الصليب ومفتاح الحياة  في وحدة معمارية وتاريخية وحضارية رائعة . في هذه الرقعة الصغيرة من أرض طيبة "الأقصر" ؛ اجتمعت الحضارات الفرعونية والمسيحية والإسلامية شاهدة على تسامح المصريين واحتضانهم للحضارات المختلفة .  تلك اللحظة المكثفة للتاريخ والزمان والمكان لن تعيشها إلا عندما تشاهد مسجد أبي الحجاج الأُقصري في حضن معبد الأقصر ؛ وتحدق في مآذن المسجد وهي تزاحم السماء إلى جوار المسلة الفرعونية .  من داخل المسجد سترى النقوش الفرعونية في كل مكان، حتى المحراب تنتشر حوله الجداريات الفرعونية، سترى كيف يرتفع جدار مسجد ليكمل جدار كنيسة ؛ وكيف تزاحم أعمدة المسجد أعمدة المعبد  المزينة بالرسومات الفرعونية !! سترى كيف يمثل هذا المسجد أيقونة تراكم الحضارات الإنسانية وامتزاج الديانات المتعددة على أرض مصر.. مثالاً على الزخم الحضاري والتاريخي الذي لا يمكن أن يوجد فوق أي أرض غيرها ؛ وشاهداً على أنها بحق ام الدنيا !


مسجد أبي الحجاج بمئذنتيه، الجديدة إلى اليسار والقديمة إلى اليمين، كما تبدو مسلة وصرح 

معبد الأقصر يمين البرج والمئذنة تصميمه الفاطمي الفريد وتوسطه لكتلة أثرية يقصدها السياح 

جعله معلماً من معالم الأقصر يخطف أنظار العالم إليه!









تم عمل هذا الموقع بواسطة