قلعة شالي عبارة عن هضبة مرتفعة تعلوها قمتان، واحدة فى أقصى الغرب والثانية في الشرق وعليها بنيت العديد من البيوت الكرشيفية القديمة التي تشكل مدينة رائعة لكل محبيّ التاريخ وعشاق العمارة الصحراوية وكل شئ أصيل ومتميز ومختلف. قلعة " شالي " مدينة بأكملها مبنية فوق صخرة ضخمة مطلة على جميع الجهات المجاورة ؛ أسفل الصخرة عدد كبير من العيون المتفخرة ( أكثر من 220 عين طبيعية ) بعضها ساخن والبعض بارد وبعضها حلو والاخر مالح ويحيط بالصخرة احراش عظيمة من النخيل تظهر بلدة "شالي" بارزة في اعلاها على هيئة قلعة حصينة جميلة الشكل كالماسة في وسط التاج .
أسفل القلعة يصطفعدد من الحافلات السياحية وينتشر عدد من العجلات الهوائية والعربات التي تجرها الحمير والبغال ؛ بالإضافة إلى التريسكلات وسيلة الانتقال الأكثر رواجاً في سيوة ؛ فنادراً ما تلحظ وجود السيارات الملاكي (الخاصة) في سيوة . في الباحة الأمامية عند مدخل القلعة ؛ يوجد عدد من المقاهي ومجموعة من البازارات الجميلة يُضيف معظمها إلى اللافتة كلمة "شالي" مقرونة باسم البازار . هنا تُعرض المشغولات اليدوية السيوية : أزياء وإكسسوارات وشالات نسائية مشغولة يدويا , حقائب , كليم , أحذية مطرزة يدويا ودمى العرائس والإبل و مشغولات من الفضة مصنوعة يدويا وغيرها من منتجات الواحة ؛ بالإضافة إلى الكثير من المشغولات الفضية المجلوبة من خارج الواحة , الشالات النسائية مثلاً ؛ المستطيل منها مصنوع بالواحة و المثلث مجلوب من سيناء.
لن تقاوم إغراء أن تشترى من هنا بعض الهدايا والتذكارات ذات الطابع البدوي والامازيغي للأهل والاصدقاء.
صعد معي مرشد من الواحة للشرح و إعطاء الخلفية التاريخية عن المكان. أخبرني : "يمكنك تسلق الجبل في عشر دقائق ؛ لا يحتاج ذلك إلى مجهود خاص ؛ فقط عليك أن تحترسي في المناطق شديدة الانحدار ". تبدأ رحلة الصعود من مدخل القلعة عند بوابة تؤدي إلى دهليز ضيق به مقعد مُشيّد من الطين، أفادني المرشد السيوي أن حارس البوابة كان يجلس عليه قديماً ؛ وعلى مقربة منه موقد كانت تشتعل فيه النار ليلًا ونهارًا . خلف الباب عبرنا شارعًا ضيقًا محتفظاً بهيئته حتى الآن .
تبدأ الصعود عبر درج ضيق ؛ وكلما تقدمت خطوات بسيطة ستشعر أن المكان يتسع تدريجيًا ؛ شئ غريب يشدك إلى المكان بمجرد أن تتوغل فيه . شئ تحار في أمره ؛هل هو بساطة البيوت مع جمال الطبيعة ؟ أم غرابة الدهاليز والشوارع الضيقة ؟.
فيما نصعد عبر الدرج العتيق تابع المرشد وصفه للمكان : " كان لبلدة شالي بوابتان يحرسهما رجال أشداء ؛ بوابة في الجهة الشرقية والأخرى غربية . في البداية ؛ كان للمدينة بوابة واحدة فقط هدفها الاطمئنان على دفاعات القلعة ، كانت تُسمى باسم "الباب إن شال" بمعني "باب المدينة"،وما تزال قائمة إلى الآن..تلك التي عبرنا من خلالها قبل قليل .
بعد مرور قرنٍ من الزمان ؛ فتح أهل سيوة بابًا ثانيًا للبلدة أطلقوا عليه اسم "الباب أثراب " أي الباب الجديد. وكان يستخدم للذين يفضلون تحاشي المرور أمام مجلس الأجواد أو العقلاء وهم رؤساء العائلات المسؤولين عن إدارة شؤون القبيلة . الباب الجديد كان بمثابة " باب سري " لم يكن يعرف مكانه إلا أهل شالي ، كانوا يستخدمونه سراً للخروج أو الدخول في حالة حصار المدينة.
بعد ذلك ؛ ولأن العادات السيوية تمنع خروج النساء إلا في أضيق الحدود ودون الاختلاط بالرجال، تم فتح باب ثالث للمدينة مخصص من أجل النساء سمي " باب قدوحة"، يُقال لأن فتحة الباب كانت في منزل شخص من أهالي الواحة اسمه " قدوحة " .لم يكن يُسمح للنساء عند خروجهن إلا باستعمال هذا الباب فقط".
تبدأ رحلة الصعود إلى قلعة شالي عبر درج ضيق ؛ وكلما تقدمت خطوات بسيطة ستشعر أن المكان يتسع تدريجيًا
التصور المنطقي لــ أي "قلعة" أنها لابد أن تكون مكاناً لإقامة الحاكم ؛ قصراًللملك مثلاً ؛ أو قاعدة عسكرية محصنة بالأسلحة والجنود المقاتلين كما هو المفهوم التقليدي والتاريخي لكلمة " قلعة " المُعبأة بالمعاني العسكرية . لكنك عندما تدخل قلعة شالي وتسير في أزقتها وشوارعها الضيقة ؛ ستكتشف أنها لم تكن مجرد قصر للحاكم ولا قاعدة عسكرية ؛ وإن كانت تحمل لوناً مزيجاً من هذا وذاك . بل كانت عبارة عن تجمع سكني كبير (مدينة سكنية - كومباوند ) يشمل كل منازل سكان الواحة الذين ينطلقون إلى بساتينهم ومراعيهم كل صباح .وعندما يحل المساء ؛ يعود كل فرد منهم إلى بيته داخل أسوار القلعة ؛ وعندها يُغلق على الجميع بوابة كبيرة واحدة ؛ ويتم إحكام السيطرة على البلدة . إنها المدينــــة القلعة إذن !
ولكن إلى جانب كونها مُجمّع سكني ؛ كانت قلعة شالي تقوم بالدور الوظيفي التقليدي لأي قلعة؛ من حيث كونها "حصن دفاع" أيضاً . في الحقيقة هي شُيّدتباﻷساس لحماية أهالي سيوة وصدّ هجمات القبائل الغازية ؛ سواء من القبائل العربية المجاورة ؛ أو قبائل البربر المتنقلة عبر الصحراء الغربية ؛ فكلهم اعتادوا مهاجمة واحة سيوة في موسم الحصاد من كل عام. دعونا نرجع بالزمن ؛ ونتذكر أن الفوضى كانت قد سادت الصحراء الغربية بعد إنهيار الامبراطورية الرومانية، فكانت القبائل في ذلك الزمن تغير على بعضها البعض بهدف الحصول على الغذاء ؛ وكانت مناطق الآبار المأهولة بالسكان مُستهدفة دوماً . ونظراً لما تتمتع به الواحة من آبار وعيون متفجرة بالماء العذب في قلب الصحراء القاحلة ؛ لطالما اجتاحت رياح القبائل العربية الليبية و البربرالاسبانية واحة سيوة ؛ وجعلت منها مسرحاً ﻷحداث وصراعات دامية .
أربعون رجلاً أعـــادوا الحياة للواحة
عاشت واحة سيوة فترات طويلة مشتعلة ومتوترة نتيجة للاعتداءات المتتالية. مرت عقود من السنوات الدامية تعرضت خلالها الواحة للاحتلال والغارات والتدمير والسلب والنهب والتقتيل والتصفية ؛ أدى كل ذذلك إلى أن تضاءل عدد سكانها من الذكور ليصل إلى أربعين رجلًا فقط!!
اجتمع هؤلاء الرجال اﻷربعون وفكروا في طريقة للحفاظ على بقائهم . بحثوا عن فكرة توفر الأمان لأرواحهم و أطفالهم ونساءهم والحماية لمنازلهم وممتلكاتهم ؛ وفي النهاية اتفقوا على أن يهجروا منازلهم المشيدة في سهل الواحة والمعرضة لخطر الغزو ؛ وينتقلوا إلى أعلى الجبل ليشيدوا فوقه بلدتهم الجديدة ؛ ويحيطونها بسور عظيم يصد عنهم الغارات المعادية ويجهض هجمات الغزاة . وبهذا تصبح البلدة الجديدة موقعًا حصينًا يساعدهم علي الإحساس بالأمن والطمأنينة ؛ ذلك الاحساس الذي طال انتظاره.
من المنطقي أن نتصور أن بناء المنازل داخل المدينة الجديدة (القلعة ) بدأ على قمة الصخرة العملاقة أعلى الجبل نزولاً إلى السفح ؛ لكن الواقع أن الرجال الأربعين الأوائل شيدوا في البداية سور عظيم يحيط بالجبل بأكمله ؛ ثم شرعوا في إقامة البيوت المكونة من طابق واحد على منحدر التل ؛ قبل أن تضاف إليه طوابق أخرى صعوداً إلى قمة الجبل . استمر بُناة القلعة بتعلية البيوت مستخدمين طبقات من الطين الذي يؤخذ من الأرض المشبعة بالملح ، فإذا جف يصبح كالأسمنت في صلابته ، ثم يتم البناء عليه كأرضية للطابق الأعلى ؛ وهكذا ارتفعت المباني داخل " قلعة شالي" إلي سبع وثمانية طوابق (أدوار) كل طبقة بُنيت على قمة اﻷخرى بشكل غير منتظم بسبب انحناءات الجبل الطبيعية . بمرور الوقت ؛ استمر التوسع الأفقي والرأسي بمرور الوقت ؛إلى أن انتهى البناء إلى هيئة قلعة تقع علي مرتفع مساحته 10 آلاف متر وتتكون من ثماني طبقات يبلغ ارتفاعها ما بين 40إلى60 متراً .كان كل منزل داخل القلعة مكونا من طابقين محاطة جميعاً بسور متين البناء تغلق أبوابه ليلاً خوفاً من الغرباء وغارات العربان التي كثيرا ما كانت تحدث خصوصا بعد مواسم الحصاد..وهكذا اكتمل بناء الأكْرُوبُول !
صورة تُظهر عدد من سكان قلعة شالي قبل انهيارها بفعل الأمطار والسيول عام 1926 م
الأكْرُوبُول (acropolis/ ἀκρόπολις / أكروبوليس) كلمة يونانية قديمة معناها الحصن أو" المدينة العالية " . كان" الأكْرُوبُول " علما على كثير من القلاع الإغريقية ؛ أشهرها أكروبول أثينا أو "قلعةُ أَثينا" التي لا تزال آثارها قائمة إلى اليوم . وفقاً لتاريخ اليونان القديمة ؛ كان الأكروبوليس يحتوي على المعابد الرئيسية المكرسة لآلهة المدينة.
يشير مصطلح " الأكروبول" بصفة عامة إلى حصن أو قلعة بنيت فوق أعلى وأفضل نقطةفي المدينة بهدف حماية المدينة والدفاع عنها ، فالاسم مشتق من ἄκρος صفة (Akros "عالية") واسم πόλις (بوليس، "المدينة") وتعني "أعلى نقطة في المدينة" . وكان " الأكروبول" بمثابة الملجأ النهائي للناس خلال الغارات وهجمات الأعداء .
وقد حدد بعض الباحثين انتقال السيويين إلى الجبل زمنيا بين عامي 1100م، و1203م . عندها تحول الجبل إلى مدينة يسكنها أهل سيوة باعتبارها قلعة محصنه يحتمون بداخلها خشية تعرضهم لأي هجوم خارجي . واعتبر تاريخ ذلك النزوح إلى الداخل إرهاصاً بحلول السلام، وتوقف هجمات قبائل البدو العابرة للصحراء عن الإغارة والسلب والنهب. وظلت قلعة أو مدينة " شالي " مأهولة بالسكان إلى عام 1926 م.
يُقال أن أغنياء شالي القُدامى سكنوا الطبقات العليا فيما سكن الفقراء الطبقات السفلى ؛ وأن الطبقة العليا الأولي كانت لابن الملك (حاكم شالي) والثانية للمهندسين والثالثة للأمراء, أما الطبقات الأخري فكانت لعامة الأهالي حسب درجة ثرائهم. وكان كل منزل في المدينة مكونا من طابقين ؛ ولكن لا توجد أي علامة لمرحاض أو مياه جارية أو نظام تصريف مياه ؛ فقد كان يتم التخلص من النفايات في مكان أسفل المنحدر .
كان بالقلعة سجن أيضاً؛ عبارة عن جُب مظلم ؛ فوقه خزانة الأرزاق أو بيت المال الذي كان السيويون يحفظون فيه مؤنتهم من الغرباء تحسبا لوقت الغارات . وكان توفير المؤن والطعام يستغرق كثيرا من الوقت والجهد؛ لكن الخزانات كانت ضرورية لاستمرار الحياة والبقاء داخل حصن شالي لفترات طويلة بعد أن تغلق المدينة أبوابها خوفاًمن وغارات الغزاة أو (الُغزيان) كما يُسميهم أهل سيوة وهم عصابات الطرق المهاجمين بالخيول والجمال . كان بوسع الزيتون والتمر المجفف ومياه البئر المتفجرة داخل القلعة أن يؤمن حياة أهل سيوة داخل القلعة لمدة عام كامل .
" قلعة شالي " هي أصل واحة سيوة ، بُنيت منذ القدم تحت اسم (شالي غالي) ، وتعني باللغة السيوية القديمة المشتقة من الامازيغية: " البلدة القديمة" أو " القرية القديمة ” ؛ حيث كلمة "شالي" تعني : المدينة أو الوطن أو البلدة في اللغة السيوية ؛ ومجمل الاسم (شالي غالي) يعنى باللغة السيوية "حصن البلدة" أو " حصن شالي القديم " . ولهذا قال عنها العالم الكبير الدكتور زاهى حواس : "تاريخ سيوة يبدأ من شالى" !!
ولهذا ؛ لا يمكنك أن تفهم سيوة دون زيارة لقلعة شالي ومسجدها العتيق أحد الدلائل اﻷولى على قيام أهل شالي بوضع علامة معمارية مهمة في هذا المكان النائي وسط رمال الصحراء الغربية الكبرى .. بحر الرمال الأعظم .
جدير بالذكر ؛ أن هناك ثلاث بلدات أو قرى في سيوة تحمل اسم " شالي" : "شالي غالي" هنا حيث " قلعة شالي " الأثرية التي يتناولها هذا الاستطلاع ؛ و"شالي أجورمي" . وهي هضبة تأخذ شكل حدوة الحصان وترتفع حوالى 30 مترًا فوق سطح الأرض، ؛ وهي الهضبة التي بُنيّ فوقها "معبد الوحي" أو " معبد آمون " أو " معبد التنبؤات" الشهير الذي تم فيه تتويج الاسكندر المقدوني إبناً للإله آمون . وأخيراً هناك "شالي القارة " أو " الجارة" كما ينطقها أهلها ؛ وتُعرف أيضاً باسم “جارة أم الصغير” وهي واحة تقع على الحافة الغربية الجنوبية من منخفض القطارة، على مسافة لا تزيد عن 350 كم من سيوة و تعتبر أصغر واحة مصرية.
وعبر مئات من السنين ؛ يصلنا وصف مدخل الواحة ببلدتيها : الشرقية والغربية ؛ كما رآها الاسكندر على النحو التالي: "وفجأة ينكشف منخفض عظيم ذو جوانب صفراء ( عبارة عن رمال وتلال من الرمال ) وقاع اخضر من احراش النخيل والزيتون تتخللة صفائح صافية من الفضة اللامعة وفى وسطها تقع طينة سمراء متجمعة وتلك هى منازل الواحة ولايلبث المسافر ان يشاهد فجاء ( الواحة ) ومنازلها بلونها الاغبر متجمعة ككتلة واحدة كالقلعة فوق تل عظيم . تلك هى البلدة وعلى بعد قليل لجهة الشرق مجموعة مماثلة لها على مرتفع آخر تلك هى الناحية الاغورمى التي تحوي معبد وهيكل الإلة آمون" .
تقدم تفاصيل البيوت الكرشيفية مثالاً رائعاً لتماهي مواد البناء مع طبيعة البيئة ؛فالمواد التي بُنيت منها بيوت " شالي" مثالية لمناخ الصحراء؛ تحافظ على الرطوبة في الصيف وتُختزن الدفئ في الشتاء .
من جهةٍ أخرى ؛ يُبرز التصميم الداخلي للبلدة نموذجاً نادراً لهندسة العمارة الصحراوية . فيما يكشف وجه قلعة شالي الخارجي بمجمله عن المزيد من ملامح العمارة الدفاعية . فهنا تنتهي وظيفة " اليوت" لتبدأ وظيفة " القلعة "! . الملمح الأول يتجلى في موقع القلعة ذاته ؛ حيث اختار قدماء السيويين تشييد بلدتهم المحصنة على هضبة عالية ؛ صعوبة تسلق شالي كان بحد ذاته أحد أساليب الدفاع عنها. من جهةٍ أخرى ؛ يسمح ارتفاعها بكشف المساحات حول الواحة من كل زاوية ؛ ويسهل عملية الرصد السريع لتقدم الغزاة نحو القلعة ؛ ما يُتيح لسكان القلعة فرصة استباقية لصد الهجوم وجهوزية للتصدي للغزاة قبل وصولهم .
يمكن أيضاً استنتاج طابع الهندسة العسكرية و المعمار الدفاعي ؛ عندما نتأمل ارتفاع الأسوار العالية متينة البناء ، وعدد أبراج المراقبة، النوافذ الصغيرة والأبواب الضيقة في كل بيوت القلعة. طبقات البيوت أيضاً ؛ مُتراصة بعضها فوق بعض، بحيث تبدو القلعة من الخارج وكأنها بيت واحد ضخم، أو قلعة وحيدة من الطين فوق الجبل . أيضاً ؛ مخازن المؤنة و آبار المياه الستة داخل القلعة التي تسمح بالتحصن لفترات طويلة داخل القلعة دون الحاجة إلى الخروج ؛ كانت أحد أسباب فشل الإغارة على شالي ؛ حيث تنفذ مؤن الغزاة ويهلكهم الجوع والعطش فيما ينعم سكان شالي بالطعام والمياه.
أعجب و أغرب منازل بُنيت من الملح والطين
سور القلعة الضخم المرتفع المُعَشَّق والمُطعَّم بالحجارة ؛ كانت تعلوة مشاعل النيران الموقدة بشكل دائم (في الماضي)، وتحيطه الحُراس من الرجال الأشداء . ولم يكن له غير باب واحد ضيق "الباب إن شال" ، تعمد سكان القلعة تصميمه بفتحة ضيقة لا تسمح إلا بدخول رجلٍ واحد ؛ فلا يمكن دخولالغُزاةإلا فرداً فرداً ؛ ما يُسهم في تشتيت جموع الغزاة ويسمح لسكان القلعة المتربصين باصطيادهم بالنبال والرماح وأدوات القتال المتاحة . الممرات والأزقة الضيقة أيضاً كانت تضمن السيطرة على الغزاة ؛ كذلك نوافذ البيوت جميعها صغيرة وضيقة ، ولها فتحات ثلاث تشكل مثلثا. فتحتان تعلوهما ثالثة، تتيح للقاطنين مراقبة الخارج. كل ذلك أثر من تأثير العمارة الدفاعية .
فى حديثه عن القرية الحصينة بسيوة، ذكر "ابن الوردى" فى كتابه "فريدة العجائب وفريدة الغرائب"، أن القائد العربي المسلم موسى بن نصير عندما كان حاكمًا على شمال أفريقية فى زمن الأمويين ؛ تحرك إلى ألواح الأقصى، أي سيوة، مسترشدًا بالنجوم وبعد أن قضى مع جيشه سبعة أيام باتجاه الجنوب الغربى، وجد مدينة يحيط بها حصن عظيم له أبواب حديدية، فأمر بعض رجاله أن يتسلقوا السور لكن كلما وصل أحدهم أعلى السور نظر إلى داخل المدينة وصرخ صرخة عالية وألقى بنفسه إلى الداخل، ولم يعرف أحد ماذا كان يحدث، كان إصرار موسى بن نصير على الاستيلاء على المدينة عظيماً، لكنه عندما فشل فى تحقيق هدفه قرر أن يتخلى عنه ، وتخلى عن المدينة متجهاً نحو الشمال الأفريقي دون الاستيلاء عليها وكان ذلك عام 708م.
كان سكان شالي يزرعون حقولهم في النهار ؛ وعندما يحل المساء ؛ يبيتون في بيوتهم داخل القلعة فوق الجبل . يحتمون خلف أسوارها وبواباتها المحروسة بالرجال الأشداء المُسلحين الذين يحرسون سكان الواحة وممتلكاتهم خشية تعرضهم لأي هجوم خارجي . واستمرت حياتهم على هذا النحو من الخطر و الترقب الحذر ؛ إلى أن وصلت الحملة التي أرسلها محمد على باشا والي مصر آنذاك إلى سيوة عام 1820 م . حيث سيطرت قوات الهجانة على الواحة وأخضعتها لسلطة الحكومة المصرية ؛ وكانت تلك إشارة لحلول السلام. بعدها توقفت هجمات قبائل البدو العابرة للصحراء عن الإغارة والسلب والنهب ؛ وشعر سكان الواحة أخيراً بالأمان والحماية. وبعد أن اطمأن مجلس الأجواد على حياة أهل الواحة ؛ سمحوا للعائلات بالخروج من القلعة وبناء منازل جديدة خارج أسوار قلعة شالي. وهكذا شُيّدت منازل السيويين من جديد عند سفح الجبل. وبدأت حركة النزوح التدريجي خارج قلعة شالي.
لكن قلعة شالي القديمة ظلت مأهولة بالسكان ؛ إلى أن فتحت السماء أبوابها في عام 1926 م ؛ وانهمرت الأمطار التي استمرت لثلاثة أيام متوالية . آنذاك تكشفت نقطة ضعف ذلك الحصن المنيع ؛ فالمواد التي بُنيت منها " قلعة شالي" كانت بالفعل مثالية لمناخ الصحراء؛ تحافظ على الرطوبة في الصيف وتُخزن الدفئ في الشتاء ؛ لكنها لا تقاوم عوامل الزمن . فقد تهالكت القلعة تماماً في عشرينيات القرن الماضي بسبب الأمطار الغزيرة التي نادراً ما تهطل على الواحة . انهار فجأة عدد كبير من بيوت القلعة المصنوعة من الملح والطين ؛ وتصدع ما تبقى من مبانيها الداخلية . لم يصمد من مباني القلعة سوى جامعها العتيق؛ أقدم مسجد بواحة سيوة، الذي لا يزال يستقبل المصليين من أهالي الواحة ؛ و تُقام فيه صلاة الجمعة إلى الآن.
بعد أن توقفت الأمطار ؛ كانت معظم مباني القلعة القديمة قد تحولت إلى أطلال بعد أن انهارت جدرانها وتهدمت . وهكذا استحالت الحياة في البيوت المُهدمة فوق الجبل ؛ ولم يكن أمام أصحاب البيوت المتصدعة المتبقية أي خيار سوى هجرها خوفاً على حياتهم. وهكذا بدأت عملية النزوح التدريجي للخارج .
وبعد عام 1986 قام ؛ جهاز تعميرالصحاري ببناءعدد 45 منزل حديث بالطوب والاسمنت لأهالي البلدة، ومن ثم قاموا بمغادرة المنازل القديمة في شالي والإقامة في تلك المنازل الحديثة. هجر أهالي الواحة بيوتهم القديمة على الجيل وغادروها نهائياً ؛وهكذا اكتمل النزوح من القلعة إلى الخارج. وعلى مدار العقود ؛ ترددت الأقاويل وانتشرت الأساطير حول أطلال القلعة القديمة ؛ فشاع أنها " مدينة الأشباح" ونسخ الخيال الشعبي كثير من القصص المثيرة حولها.
عندما تصعد إلى مدينة شالي اليوم ؛ باستثناء الجامع العتيق الذي أنشئ مع إنشاء المدينة ؛ لن تقع عيناك على أي مبنى مكتمل معظمها تحول اﻵن إلى أطلال . صحيح أن جزء كبير من بيوت المدينة القديمة مازال قائماً ؛ حتى على المنحدرات شديدة الانحدار أحياناً ؛ لكن القلعة التي كانت تتكون من ثماني طبقات يبلغ ارتفاعها ما بين 40 إلى 60 متراً ؛ لا تزال قائمة من حيث الهيئة الخارجية فقط . إذ لم يتبق منها سوى الأزقة والممرات الضيقة التي صنعتها جدران الحجارة الكرشيفية غير المكتملة و بقايا المصاطب التي كان يجلس عليها سكان القلعة. أما أسقف البيوت والفواصل بين الطوابق ؛ فلا وجود لها بعد أن قام أصحاب البيوت بإزالة أعمدة جذوع النخيل لإقامة أسقف منازلهم الجديدة خارج القلعة . النوافذ والأبواب المصنوعة من أشجار الزيتون أيضا تم نقلها لتثبيتها في البيوت الجديدة على سفح الجبل .
بيوت كثيرة كلها بلا سقف ؛ بلا نوافذ أو أبواب .. مجرد جدران هو كل ما بقي من قلعة شالي !. أينما أرسلت نظرك ؛ لا يعود إليك سوى بصور جدران الملح والطين المهدمة.. لكن مجرد التجول الهادئ بين تلك الممرات الضيقة كالسراديب ؛ ووتأمل ما تبقى من جدران المنازل غير المأهولة وتخيل كيف كانت تمضي الحياة هنا منذ مئات السنين ؛ ذلك الغوص التدريجي في الأطلال ؛ هو بحد ذاته تجربة نفسية ممتعة لمحبي التاريخ والطبيعة والمُغرمين بفنون العمارة التاريخية . تلك الجدران الكرشيفية غير المكتملة ليست بالميراث الزهيد ؛ فعلى نتوءاتها نقرأ قصة نضال البشر مع الحياة وقسوتها وسط الصحراء ؛ حكاية مشوقة تشرح لنا عبقرية التكيف البشري مع ظروف البيئة في العقود الماضية وفنون العمارة الدفاعية؛ وشهادة توثق تماهي الهندسة المعمارية مع معطيات الطبيعة وما توفره البيئة من مواد البناء.. وأثناء تجولي بالقلعة ؛ كانت أعمال الترميم تتم في أجزاء من القلعة تم إغلاقها وإحاطتها بسياج يمنع دخول الزوار . من الجيد أن هناك محاولة من قبل وزارة الثقافة المصرية لإعادة هيكلة البناء القديم للقلعة كما كانت عليه في السابق ؛ بهدف تحويل المكان إلى موقع سياحي يضاهي شكل القلعة الأصلي.
لكثافة احساسي بما تقوله الجدران في شالي ؛ لم أتوقف عن التقاط الصور للعديد من الجدران الكرشيفية المتبقية ؛ المتهدم منها والمكتمل